بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، أَمَّا بَعدُ:
مِن عَظِيمِ نِعَمِ اللهِ أَنَّهُ أَنعَمَ عَلَينَا بِالإِسلَامِ وَبَعْدَ أَنْ أَعطَانَا النِّعمَةَ رَغَّبَنَا فِيهَا، وَزَادَنَا فَأَعطَانَا أَشيَاءَ تُسَاعِدُنَا لِنَزدَادَ فِيهِ رُقِيًّا فِي الدَّرَجَاتِ، فَنَنَالَ المَزِيدَ مِنَ الخَيرَاتِ، فَقَد رُوِيَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ ذُكِرَ لَهُ رَجُلٌ مِن بَنِي إِسرَائِيلَ حَمَلَ السِّلاحَ عَلَى عَاتِقِهِ أَلفَ شَهرٍ، فَعَجِبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِذَلِكَ، وَتَمَنَّى أَن يَكُونَ ذَلِكَ فِي أُمَّتِهِ، فَأَعطَاهُ اللهُ تَعَالَى لَيلَةَ القَدرِ وَقَالَ: هِيَ خَيرٌ مِن الأَلفِ شَهرٍ الَّتِي حَمَلَ فِيهَا هَذَا الرَّجُلُ السِّلَاحَ فِي سَبِيلِ اللهِ.
فَاللهُ تَعَالَى قَد عَلِمَ قِصَرَ أَعمَارِنَا، وَعَلِمَ طُولَ أَعمَارِ مَن قَبلَنَا، فَأَنعَمَ عَلَينَا بِأَنَّ عِبَادَتَنَا فِي بَعضِ الليَالِي وَالأَيَّامِ تُعَادِلُ شُهُورًا وَسِنِينًا مِنَ العِبَادَاتِ فِي زَمَنِ مَن قَبلَنَا، وَلَم تَقتَصِر رَحمَةُ اللهِ عَلَينَا عَلَى هَذَا فَقَط، بَل إِنَّهُ أَمَرَنَا أَن نَزدَادَ فِي الخَيرِ أَكثَرَ، فَأَخفَى عَنَّا بَعضَ هَذِهِ الأَوقَاتَ حَتَّى لَا نَتَّكِلَ وَنَتَكَاسَلَ وَنَقتَصِرَ فِي عِبَادَتِنَا عَلَى هَذِهِ الأَوقَاتِ.
إِنَّ مِن أَعظَمِ هَذِهِ الأَوقَاتِ الَّتِي أَخفَاهَا اللهُ عَنَّا مِمَّا يُضَاعَفُ فِيهَا الأُجُورُ، مِمَّا يَنبَغِي عَلَى الشَّخصِ أَن يَتَحَرَّى العِبَادَةَ فِيهَا أَشَدَّ التَّحَرِّي، لَيلَةَ القَدرِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَنزَلنَاهُ فِي لَيلَةِ القَدرِ * وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ * لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ * تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطلَعِ الفَجرِ﴾، فَهَذِهِ الليلَةُ الَّتِي اختَارَهَا اللهُ لِيُنزِلَ فِيهَا القُرءَانَ، وَهَذَا فِيهِ بَيَانٌ لِشَرَفِهَا وَقَدرِهَا العَظِيمِ، لَيلَةٌ العِبَادَةُ فِيهَا تُعَادِلُ العِبَادَةَ فِي أَلفِ شَهرٍ لَيسَ فِيهَا لَيلَةُ القَدرِ، لَيلَةٌ يَنزِلُ فِيهَا عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ المَلَائِكَةِ حَتَّى إِنَّ الأَرضَ لَتَضِيقُ بِهِم مِن كَثرَتِهِم، يَتَرَأَسُهُم جِبرِيلُ عَلَيهِ السَّلَامُ، يَملَأُونَ الأَرضَ بَرَكَةً وَأَنوَارًا، يُصَلُّونَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَى كُلِّ عَبدٍ قَائِمٍ أَو قَاعِدٍ يَذكُرُ اللهَ تَعَالَى مِنَ المَغرِبِ إِلَى الفَجرِ، بَل إِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ يَنزِلُ فِيهَا مَلَائِكَةٌ مَخصُوصُونَ لَا يَنزِلُونَ إِلَّا فِي لَيلَةِ القَدرِ بَل وَلَا يَرَاهُمُ المَلَائِكَةُ إِلَّا فِي لَيلَةِ القَدرِ، لَيلَةٌ لَا يَحدُثُ فِيهَا دَاءٌ، وَلَا يُرسَلُ فِيهَا شَيطَانٌ، وَلَا يَستَطِيعُ إِيذَاءَ أَحَدٍ.
وَفِي الصَّحِيحَينِ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: “مَن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ“، وَفِي المُسنَدِ عَن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: “مَن قَامَهَا ابتِغَاءَهَا ثُمَّ وَقَعَت لَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ“، وَفِي المُسنَدِ وَالنَّسَائِيِّ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ فِي شَهرِ رَمَضَانَ: “فِيهِ لَيلَةٌ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ، مَن حُرِمَ خَيرَهَا فَقَد حُرِمَ“.
معنى قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوْحُ فِيْهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾
أَي تَهبِطُ المَلائِكَةُ مِن كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى الأَرضِ عِندَ الغُرُوبِ، وَالمُرَادُ بالرُّوحِ جِبرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ وَهُوَ أَشرَفُ المَلائِكَةِ، وَقَولُهُ تَعَالَى ﴿فِيهَا﴾ أَي فِى لَيلَةِ القَدرِ، وَقَولُهُ ﴿بِإِذنِ رَبِّهِم﴾ أَى بِأَمرِهِ، فَهُوَ أَمَرَهُم بِالنُّزُولِ، وَقَولُهُ تَعَالَى ﴿مِن كُلِّ أَمرٍ﴾ أَي يَنزِلُونَ بِكُلِّ أَمرٍ قَضَاهُ اللهُ فِي تِلكَ السَّنَةِ إِلَى قَابِلٍ، فَاللهُ تَعَالَى يُطلِعُ مَلَائِكَتَهُ عَلَى مَا يَحصُلُ مِنَ الأُمُورِ فِي السَّنَةِ المُقبِلَةِ، فَيَنزِلُونَ بِهِ تِلكَ الليلَةَ.
اعلَم أَنَّ تَقدِيرَ اللهِ تَعَالَى الأَزَلِيَّ لا يُغَيِّرُهُ شَيءٌ، لَا دَعوَةُ دَاعٍ وَلَا صَدَقَةُ مُتَصَدِّقٍ وَلَا صَلاةُ مُصَلٍّ وَلَا غَيرُ ذَلِكَ مِنَ الحَسَنَاتِ، بَل لَا بُدَّ أَن يَكُونَ الخَلقُ عَلَى مَا قَدَّرَ اللهُ لَهُم فِي الأَزَلِ مِن غَيرِ أَن يَتَغَيَّرَ ذَلِكَ، فَاللهُ تَعَالَى إِذَا قَدَّرَ أَنَّ وَاحِدًا مِن عِبَادِهِ يُصِيبُهُ كَذَا لا بُدَّ أَن يُصِيبَهُ ذَلِكَ الشَّيءُ، وَلَو تَصَدَّقَ ذَلِكَ الإِنسَانُ صَدَقَةً أَو دَعَا أَو وَصَلَ رَحِمَهُ أَو عَمِلَ إِحسَانًا لِأَقَارِبِهِ لِأُمِّهِ وَأُختِهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ وَأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَنَحوِ ذَلِكَ مِن أَهلِهِ، لَو عَمِلَ لَهُم إِحسَانًا لَا بُدَّ أَن يَنْفذَ مَا قَدَّرَ اللهُ أَن يُصِيبَ هَذَا الإِنسَانَ، وَلَا يَجُوزُ أَن يَعتَقِدَ الإِنسَانُ أَنَّهُ إِن تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَو وَصَلَ رَحِمَهُ أَو دَعَا دُعَاءً يَنجُو مِمَّا قَدَّرَ اللهُ أَن يُصِيبَهُ، وَقَد زَعَمَ بَعضُ النَّاسِ فِي لَيلَةِ النِّصفِ مِن شَعبَانَ أَنَّهُم إِن دَعَوُا اللهَ فِي هَذِهِ اللَّيلَةِ يَذهَبُ عَنهُم شَيءٌ قَدَّرَ اللهُ أَن يُصِيبَهُم.
معنى الآية: ﴿كُلَّ يَومٍ هُوَ فِي شَأنٍ﴾.
وَأَمَّا قَولُهُ تَعَالَى: ﴿كُلَّ يَومٍ هُوَ فِي شَأنٍ﴾، [سورة الرَّحمٰنِ: 29]، فَلَيسَ مَعنَاهُ أَنَّ اللهَ يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ بِاختِلافِ الأَزمَانِ وَالأَحوَالِ، بَل مَعنَاهُ يَخلُقُ خَلقًا جَدِيدًا كُلَّ يَومٍ وَيُغَيِّرُ فِي خَلقِهِ، وَلا يَتَغَيَّرُ فِي عِلمِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
معنى قوله ﷺ: “لا يَرُدُّ القَضَاءَ شَيءٌ إِلَّا الدُّعَاءُ“.
وَأَمَّا الحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ: “لا يَرُدُّ القَضَاءَ شَيءٌ إِلَّا الدُّعَاءُ“، فَالمُرَادُ بِهِ القَضَاءُ المُعَلَّقُ، لِأَنَّ القَضَاءَ مِنهُ مَا هُوَ مُعَلَّقٌ وَمِنهُ مَا هُوَ مُبرَمٌ أَي لَا يَتَغَيَّرُ، فَالمُعَلَّقُ مَعنَاهُ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ فِي صُحُفِ المَلائِكَةِ الَّتِي نَقَلُوهَا مِنَ اللَّوحِ المَحفُوظِ، فَمَثَلًا يَكُونُ مَكتُوبًا عِندَهُم فُلَانٌ إِن وَصَلَ رَحِمَهُ أَو بَرَّ وَالِدَيهِ أَو دَعَا بِكَذَا يَعِيشُ إِلَى المِائَةِ أَو يُعطَى كَذَا مِنَ الرِّزقِ وَالصِّحَّةِ، وَإِن لَم يَفعَل ذَلِكَ يَعِيشُ إِلَى السِّتِّينَ وَلا يُعطَى كَذَا مِنَ الرِّزقِ وَالصِّحَّةِ، هَذَا مَعنَى القَضَاءِ المُعَلَّقِ أَوِ القَدَرِ المُعَلَّقِ، وَلَيسَ مَعنَاهُ أَنَّ تَقدِيرَ اللهِ الأَزَلِيَّ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى فِعلِ هَذَا الشَّخصِ أَو دُعَائِهِ، فَاللهُ تَعَالَى يَعلَمُ كُلَّ شَيءٍ، لَا يَخفَى عَلَيهِ شَىءٌ، هُوَ يَعلَمُ بِعِلمِهِ الأَزَلِيِّ أَيَّ الأَمرَينِ سَيَختَارُ هَذَا الشَّخصُ وَمَا الَّذِي سَيُصِيبُهُ، وَعَلَى مِثلِ ذَلِكَ يُحمَلُ الحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ البَيهَقِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: “لا يَنفَعُ حَذَرٌ مِن قَدَرٍ وَلَكِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَمحُو بِالدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنَ القَدَرِ“.
وَمِمَّا استَدَلَّ بِهِ أَهلُ الحَقِّ عَلَى أَنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ لِدُعَاءِ دَاعٍ الحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الحَافِظُ عَبدُ الرَّحمٰنِ بنُ أَبِي حَاتِمٍ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: “سَأَلتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَربَعًا فَأَعطَانِي ثَلاثًا وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً“، الحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ: “وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُرَدُّ“، فَلَو كَانَ اللهُ يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ بِدَعوَةٍ لَغَيَّرَهَا لِحَبِيبِهِ المُصطَفَى ﷺ، وَلَكِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لا تَتَغَيَّرُ صِفَاتُهُ، هَذِهِ هِيَ القَاعِدَةُ وَمَا عَلَيهِ أَهلُ الحَقِّ، وَكُلُّ نَصٍّ ءَايَةٍ أَو حَدِيثٍ يُوهِمُ ظَاهِرُهُ تَغَيُّرَ مَشِيئَةِ اللهِ فَلَا يَجُوزُ أَخذُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَل يُؤَوَّلُ بِالدَّلِيلِ وَيُحمَلُ عَلَى مِثلِ مَا ذَكَرنَا.
معنى قوله تعالى: ﴿فِيْهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيْمٍ﴾
وَأَمَّا قَولُهُ تَعَالَى: ﴿فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمرٍ حَكِيمٍ﴾، [سورة الدخان: 4]، فَمَعنَاهُ كَمَا قَالَ عَبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ تَرجُمَانُ القُرءَانِ، إِنَّ لَيلَةَ القَدرِ الَّتِي هِيَ مِن رَمَضَانَ هِيَ اللَّيلَةُ الَّتِي يُفرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمرٍ حَكِيمٍ، أَي كُلُّ أَمرٍ مُبرَمٍ، أَي أَنَّهُ يَكُونُ تَقسِيمُ القَضَايَا الَّتِي تَحدُثُ للعَالَمِ مِن تِلكَ الليلَةِ إِلَى مِثلِهَا فِي العَامِ المُقبِلِ مِمَّا يَحدُثُ فِي تِلكَ السَّنَةِ، مِن مَوتٍ وَصِحَّةٍ وَمَرَضٍ وَفَقرٍ وَغِنًى وَغَيرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطرَأُ مِنَ الأَحوَالِ المُختَلِفَةِ مِن تِلكَ الليلَةِ إِلَى مِثلِهَا فِي العَامِ القَابِلِ، وَلَيسَ فِي لَيلَةِ النِّصفِ مِن شَعبَانَ كَمَا يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
وَإِنَّمَا الَّذِي وَرَدَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: “يَطَّلِعُ اللهُ إِلَى خَلقِهِ فِي لَيلَةِ النِّصفِ مِن شَعبَانَ، فَيَغفِرُ لِجَمِيعِ خَلقِهِ إِلَّا لِمُشرِكٍ أَو مُشَاحِنٍ“، رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
وَالمُشَاحِنُ مَعنَاهُ الَّذِي بَينَهُ وَبَينَ مُسلِمٍ ءَاخَرَ عَدَاوَةٌ وَحِقدٌ وَبَغضَاءُ، أَمَّا مَن سِوَى هَذَينِ فَكُلُّ المُسلِمِينَ يُغفَرُ لَهُم، فيُغفَرُ لِبَعضٍ جَمِيعُ ذُنُوبِهِم وَلِبَعضٍ بَعضُ ذُنُوبِهِم.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا التِفَاتَ إِلَى مَن يَنسُبُ إِلَى عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَغَيرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ ذِكرًا يَعمَلُ بِهِ بَعضُ النَّاسِ فِي لَيلَةِ النِّصفِ مِن شَعبَانَ، وَأَوَّلُ هَذَا الذِّكرِ: يَا مَن يَمُنُّ وَلَا يُمَنُّ عَلَيهِ، وَفِيهِ: اللهم إِن كُنتَ كَتَبتَنِي فِي أُمِّ الكِتَابِ شَقِيًّا أَو مَحرُومًا أَو مُقَتَّرًا عَلَيَّ رِزقِي، فَامحُ اللهم شَقَاوَتِي وَالإِقتَارَ عَلَيَّ فِي رِزقِي، فَلَا يَثبُتُ شَيءٌ مِن ذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الحَافِظُ البَيهَقِيُّ فِي كِتَابِ القَدَرِ، وَقَد ذَكَرَ البَيهَقِيُّ أَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ: ذَلِكَ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَن ذَلِكَ فِي العَامِ الَّذِي يَلِيهِ.
وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الذِّكرُ خَطَأً ءَاخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُم يَقُولُونَ أَنَّ اللَّيلَةَ الَّتِي يُفرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمرٍ حَكِيمٍ وَيُبرَمُ هِيَ لَيلَةُ النِّصفِ مِن شَعبَانَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيلَةُ القَدرِ.
فَيَنبَغِي التَّحذِيرُ مِن ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا عِندَمَا يَقرُؤُهُ الجَاهِلُ الَّذِي لَم يَتَعَلَّمِ العَقِيدَةَ يَظُنُّ أَنَّ اللهَ يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ تِلكَ اللَّيلَةَ، وَاعتِقَادُ تَغَيُّرِ مَشِيئَةِ اللهِ كُفرٌ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نِسبَةَ الحُدُوثِ إِلَى اللهِ، وَالحُدُوثُ يُنَافِي الأُلُوهِيَّةَ.
الصِّفَاتُ الثَّلاثَ عَشرَةَ هِيَ الصِفَاتُ القَائِمَةُ بِذَاتِ اللهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَعنَى القَائِمَةِ بِذَاتِ اللهِ أَي الثَابِتَةِ لَهُ.
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الثَّلاثَ عَشرَةَ الوَاجِبَةُ للهِ تَجِبُ مَعرِفَتُهَا عَلَى المُكَلَّفِ، وَلَا يَجِبُ حِفظُ أَلفَاظِهَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَهِيَ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ أَهلِ الحَقِّ أَي، لَيسَت حَادِثَةً فِي ذَاتِ اللهِ بَل هِيَ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللهِ أَزَلًا وَأَبَدًا، فَلا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَزِيدُ وَلا تَنقُصُ كَصِفَاتِ الخَلقِ.
وَصِفَاتُ اللهِ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لِأَنَّ الذَّاتَ أَزَلِيٌّ، فَلا تَحصُلُ لَهُ صِفَةٌ لَم تَكُن فِي الأَزَلِ، أَمَّا صِفَاتُ الخَلقِ فَهِيَ حَادِثَةٌ تَقبَلُ التَّطَوُّرَ مِن كَمَالٍ إِلَى أَكمَلَ، فَصِفَةُ الْمَشِيْئَةِ للهِ تَعَالَىْ لَا تَتَغَيَّرُ كَبَاقِيْ صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ كَالْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ.
وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
هَذِهِ المَسَائِلُ مَجمُوعَةٌ وَمُلَخَّصَةٌ مِنَ:
1- القُرءَانِ الكَرِيمِ.
2- السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ.
3- صَحِيحِ البُخَارِيِّ.
4- صَحِيحِ مُسلِمٍ.
5- سُنَنِ التِّرمِذِيِّ.
6- سُنَنِ النَّسَائِيِّ.
7- مُسنَدِ أَحمَدَ.
8- صَحِيحِ ابنِ حِبَّانَ.
9- تَفسِيرِ النَّسَفِيِّ.
10- تَفسِيرِ القُرطُبِيِّ.
11- الِاعتِقَادِ لِلبَيهَقِيِّ.
12- شُعَبِ الإِيمَانِ لِلبَيهَقِيِّ.
13- الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ لِلْبَيْهَقِيِّ.