بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سَيِّدنا مُحَمَّدٍ رسول الله، أمَّا بعدُ:
قال الله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [سورة القدر]
هذه السورة العظيمة تُبين أن لليلة القدر شأنًا عظيمًا.
ففيها أنزل الله تبارك وتعالى القرءان أي أمر جبريل عليه السلام فأخذ جبريل عليه السلام القرءان من الذِّكْر أي اللوح المحفوظ فنـزل به إلى مكان في السماء الدنيا يسمى بيت العزة دفعة واحدة ثم صار ينزل به على دَفَعات على سيدنا محمد ﷺ.
وليلة القدر لا تكون إلا في شهر رمضان ولا يشترط أن تكون ليلة السابع والعشرين منه بدليل حديث وَاثِلَةَ بنِ الأَسقَع قال: قال رسولُ الله ﷺ: “أُنزِلَتِ التَّورَاةُ لِسِتٍّ مَضَينَ مِن رَمَضَانَ وَأُنزِلَ الإِنجِيلُ لِثَلَاثَ عَشرَةَ خَلَتْ مِن رَمَضَانَ وَأُنزِلَ الفُرقَانُ لِأَرَبعٍ وَعِشرِينَ خَلَت مِن رَمَضَان“، رواه الإمام أحمد والبيهقي.
فيحتمل أن تكون أيَّ ليلةٍ من ليالي رمضان، والغالبُ أنها تكونُ في العَشرِ الأواخر من رمضان، فقد قال رسول الله ﷺ: “فَالتَمِسُوهَا فِي العَشرِ الأَوَاخِرِ” أي لأن الغالب أن تكون في العشر الأواخر وليس لأنه لا تكون إلا فيه وإلا فإنها قد تصادف الليلة الاولى أو الثانية أو غيرهما.
الحكمة من إخفاء ليلة القدر كي يتحقق اجتهاد العباد في ليالى رمضان كلها طمعاً منهم في إدراكها.
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
فَمَن أراد إحياءَ ليلةِ القدر فَليَتَهيَّأ لهذه الليلةِ العظيمةِ المباركةِ أولًا بعلم الدِّين لأن علمَ الدِّين حَياةُ الإسلام ولأن العِلمَ يكون قبل العَمَل، فَمَن أرَاد أن يُحيِيَها بالذِّكر، أو بالاستغفار، أو بالتسبيح والتحميد والتَّهلِيل والصَّلاة على النبي ﷺ، عليه أولًا بعلم الدين، ومن أراد أن يحييها بصلاة التطوع بقيام الليل، أو بِتِلَاوَة القُرءَان العَظِيم عليه أولًا بعلم الدين.
تتميزُ ليلةُ القدر بالنسبة لمن يراها يقظةً أنه يرى أنوارًا غيرَ أنوَارِ الشَّمس والقَمَر والكَهرَبَاء.
أو قَد يرى أن شُرُوق الشَّمس في غَدِ تِلكَ اللَّيلَة المباركة العظيمة فِي صَبِيحَتِها يختَلِف عَن شُروقِ شمسِ صبِيحَة بَاقِي الأيام.
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ
أَي تَهبِطُ مَلَائِكَةُ الرَّحمَة مِن كُلِّ سَمَاءٍ إلى الأرض. والمراد بالروحِ جبريلُ عليه السلام وهو أشرفُ الملائكة.
يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “إِذَا كَانَت لَيلَةُ القَدرِ نَزَلَ جِبرِيلُ فِي كَبكَبَةٍ مِنَ المَلَائِكَةِ يُصَلُّونَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَى كُلِّ عَبدٍ قَائِمٍ أَو قَاعِدٍ يَذكُرُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ“رَوَاهُ السيوطي في الجامع الصغير.
ومعنى كبكبة أي جمع.
وَليُعلَم أن الملائكةَ أجسامٌ نُورَانِيَّة ليسوا ذكورًا ولا إناثًا لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا يَتَنَاكَحُون ولا يَعصُون الله ما أمَرَهم ويَفعَلُون ما يُؤمَرُون.
وَقَولُه تَعَالَى: ﴿فِيهَا﴾ أي في ليلة القدر.
وَقَولُه تَعَالَى: ﴿مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾، أَي يَنْزِلون بِكُلِّ أمرٍ قَضَاهُ الله في تلك السنة إلى قابل، فالله تعالى يُطلِعُ ملائكته على ما يحصل من الأمور في السنة المقبلة فينزلون به تلك الليلة.
لَيلَةُ القَدرِ هي الليلةُ الَّتِي قال الله تعالى فيها: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، أي فيها يُطلِعُ اللهُ تعالى ملائكتَه الكرام على أخبارِ السنةِ القابلة من إماتةٍ وإحياءٍ، ومَنْ مِنَ العباد سيبتليهمُ اللهُ بالمرضِ والفقر وغير ذلك من البلاء، ومن منهم يُنْعِمُ عليهم بالصحة والغِنَى وغير ذلك، وليست هذه الليلة هي ليلة النصف من شعبان.
سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ
أي أن ليلة القدر سَلَامٌ وخَيرٌ على أولياء الله تعالى وأهل طاعته المؤمنين ولا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو أذى وتدوم هذه السلامة حتى الفجر.
من الناس من يراها في المنام، كأن يرى الأشجارَ ساجدةً لله وقد يرى ذلك يقظة والأكملُ والأقوى رؤيتُها يقظة، ومن رءاها في المنام ففي ذلك خير.
من أكرمه الله تعالى برؤيتها في تلك الليلة فَلْيَدْعُ اللهَ أن يفرّجَ الكربَ عن المسلمين وأن يرفعَ البلاءَ والغلاء عن المسلمين وأن يرفعَ عنهم ويفرّجَ عنهم ما أهَمّهم وأغمّهم.
وليقل: (اللهم إِنَّكَ عَفُوٌ تُحِبُّ العَفوَ فَاعفُ عَنِّي أَو (عَنَّا).
وَيَنبَغِي لِمَن رأى ليلةَ القدر أن يَكتُمَ ذلك ولا يتكلم به للناس لِأُمُورٍ منها:
1- أنَّه يُخشَى أن يُصابَ بالعَينِ.
2- وأنَّه إن تَكَلَّم قد يُؤَدِّي ذَلِك إلى فُتُورِ هِمَّةِ بَعضِ المجتهدين بالعبادة رجاءَ أن تُوَافِقَ عبادَتُهم ليلةَ القدر لِيُضَاعَفَ ثَوَابُهم، فإنّ مِن حِكَمِ إخفائها عن الناس أن يَجتَهدَ العبدُ في الطاعة كلَّ ليالي رمضانَ رجاءَ أن تُصَادِف عِبادَتُه ليلةَ القدر لِيُضَاعَف ثَوابُه، ففي الحديث:”مَنْ قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِه“.
فيَنبَغِي لِلإِنسَان المُؤمِنِ أن يَعمَلَ بالطَّاعَات في لَيَالِي رمضانَ كُلِّهَا حتَّى يُصِيب تِلكَ اللَّيلَة كي لا يَفُوتَه ثواب إِحيائِهَا ولو لم يَرَ علامَاتِها في اليقظة أو في المنام.
فَهَيِّئُوا الزَّاد لِيَوم المَعَاد وحاسِبُوا أنفُسَكم قبل أن تُحَاسَبُوا واستعدُّوا ليومٍ لا بُدَّ فيه من أن تَدخُلوا حُفرَة القبر، فالقبر بابٌ كلُّ الناس داخِلُه وملَكُ الموتِ لا يستأذِنُ كبيرًا ولا يستأذِنُ صغيرًا ولا يتركُ قويًا مُعَافًى ولا يَترُكُ مريضًا سَقِيمًا أو شيخًا هَرِمًا فَأَقبِلُوا إلى ءَاخِرَتِكُم بالطاعة والتوبة قبل الموت.
نسأل الله تعالى أن يبلغنا ليلة القدر العظيمة ويرزقنا فيها الدعاء المستجاب.